لندن.
عن التطبيع الذهني الذي يفرضه الإستعمار في فلسطين
في الذكرى الخمسين لغياب فرانتس فانون
في العام 1948 احتل المستعمر الصهيوني أرض فلسطين وأقامَ عليها دولة « إسرائيل ». تلك واقعة تاريخية. النتيجة المباشرة والحتمية لأي استعمار هي انقلاب موازين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المُستعمَر والمُستعمِر كما تشهد على ذلك الحالات الاستعمارية جمعاء. في فلسطين، اتخذ طابع هذا الإنقلاب شاكلة دولة بات المستعمَرون فيها مواطنين بفعل عوامل سياسية مختلفة. على الرغم من أنَّ هؤلاء « المواطنين » لم تخف عنهم طبيعة وواقع « دولتهم »، إلا أنَّ شيئاً ما في حقيقة علاقة القوة التي خلقها هذا الإستعمار قد تخلخل مع الوقت بحيث أن تسمية الواقع في وعي المستَعمر أخذت منحدراً جديداً يتطابق ويترادف مع ذلك الذي خلقه الإستعمار.
فلسطين المحتلة عام 1948 تُشكل مثالاً كلاسيكياً لعلاقة التطبيع الذهنية -الفردية والجماعية على حد سواء- التي يفرضّها الكيان المستعمر الذي نحيا داخله (وتحته)؛ ابتداءً من التفاصيل الحياتية اليومية مثل شراء الحليب وتصليح السيارة مروراً بعيادة الطبيب والذهاب إلى دور السينما والمقاهي وصولاً إلى قراءة الصحف اليومية والتصويت والترشّح « للكنيست » واللعب في الفريق « القومي » لكرة القدم وكذلك التوجّه الى القضاء الإسرائيلي والدراسة في الجامعات الإسرائيلية وما إلى ذلك من شؤون وتفاصيل حياتية أخرى. كل ذلك يخلق واقعاً يومياً معقداً يطال خياراتنا الفردية والعامّة ويدخلنا في حالة صراع يومي مع قيمّنا الإنسانية في ظل تقلص مساحة الخيارات والإمكانيات التي يفرضها هذا الواقع.
ولتفادي أي إلتباس، ينوّه أن حالة التطبيع التي نحن بصددها كفلسطينيين في ظل الإستعمار، لا تمت بصلة –لا في اللغة ولا في الممارسة- للتطبيع الإختياري والطوّعي الممارس على صعيد تطبيع العلاقات المؤسساتية –في الدول العربية وغيرها- مع إسرائيل، حيث أن علاقة التطبيع التي نحن بصددها هي تلك المرتبطة بالوعي الناتج عن علاقة تعاطي جبّرية يفرضها واقع الإستعمار وممارساته في كافة تفاصيلنا الحياتية. التطبيع المقصود هو ذلك الأثر الذهني الذي تولّده ممارسات الإستعمار في وعّينا ولا وعّينا كأُفراد يحيون في صُلبه وعلى هامشه في ذات الوقت. هي مصيدة ذهنية ينصبّها لنا لتشويه الوضوح وجعل الحدود غير مرئية بين تلك الحقيقة التاريخية لكوننا مستعمَرين –إنطلاقاً من الواقع التاريخي الفلسطيني منذ العام 1947 على الأقل- وبين تلك الحقيقة « الوهمية » التي نعيشها في ظل الإستعمار اليومي. المسببات التي آلت بالفلسطينيين الى وضعية التطبيع المتراكم تعود حصة الأسد فيها الى آلية الإستعمار ذاته للحفاظ على وجوده وعلى سيرورته. تغييبنا عن أنفسنا هو الورقة الرابحة في هذه اللعبة والمستعمِر لا يمكنه أن ينتصر ما لم يتفوق على المستعمَر، ذهنياً ونفسياً.
ناقوس الخطر الذي علقّه فرانتس فانون على أبواب المستعمَرين في بلاده المارتينيك ولاحقاً عبر تجربته الفذّة في الجزائر جاء أولاً وأخيراً ليحذرنا من هذه المصيدة. من هناك انطلق، من عند المعذبين في الأرض الذين لفرط ما يتم تغييبهم عن ذواتهم، يتلاشون في ظل الاستعمار حد الرغبة في التماهي معه الى أقصى ما يتيح لهم من حدود. رأى فانون ما كان يجري هناك في الظل حيث كان الفرد يفقد تدريجياً قيمّه الإنسانية وكرامته –ليس بمفهومها الحقوقي الزائف- بل بمفهومها الإنساني الصرف، الحرية.
لهذه المصيدة فكّان في سياق فلسطين المحتلة عام 1948 : فمن جهة، تخلق العلاقة المتراصة والمتلاصقة والمتراكمة مع المستعمِر نوعاً من التذكير المستمر الذي لا يمكن تغاضيه أو تحاشيه، ومن جهة أخرى فإن هذه العلاقة اليومية ذاتها بحميميتها وقربها هي التي تُصّنع الوهم المستمر بطبيعية الاستعمار وطبيعية وجوده بيننا وفينا. حالات التطبيع الذهنية التي فرضتها طبيعة الاستعمار في فلسطين تتجلى في شتى مجالات الحياة. في اللغة السياسية ولغة الثقافة والصحافة وفي اللغة ذاتها التي استولى الاستعمار على مفرداتها وأعادها الينا جثة مثقوبة، كما تبرز في المدن التي خوت وذوت. في سكانها « الأصليين » وأولئك الذين هاجروا إليها، في مقاهيها وعمرانها وأسواقها. المدن « الفلسطينية » هي تجسيد حي لروح التطبيع الذهني الاستعماري. القرى الفلسطينية وعلى الرغم من « انفصالها » عن ذلك الحيّز المديني « المختلط » فهي أيضاً قد طالتها طائلة التطبيع الذهني عبر الاقتصاد والتعليم ونشرات الأخبار ومباريات كرة القدم.
جهاز التعليم الإسرائيلي الذي تفرض المؤسسة الإسرائيلية مضامينه وسياساته يعتبر محركّاً أساسياً في عملية التطبيع الذهنية لدى الطالب والمدرّس الفلسطيني على حد سواء، وخاصة في مؤسسات التعليم العالي التي عادة ما تشكل المحطة الأولى للقائه بـ »الآخر » وجهاً لوجهاً في احتكاك يومي زخم. لنتوقف قليلاً عند حال الطالب الفلسطيني الذي يقصد الجامعات الإسرائيلية فيجد نفسه في حالة تطبيع مكثفة تمتد من غرف التدريس الى خارجها وصولاً الى تلك الغرف المغلقة في داخله. هو يشارك زميله « الآخر » هموم الطلاب وقلقهم الإعتيادي أسوة بباقي الطلاب في كافة جامعات العالم. المدرّس « الآخر » هو شخص المدرّس بما يحمل ذلك من سمّات ومعاملات ككل المدرّسين في العالم. ومع أن ذلك « الآخر » -سواء كان طالباً أم مدرّساً- يتبع لشق مختلف من معادلة القوة، إلا أنَّ هذه الإختلافات تبرز بحدة لتشكل حالة « استثنائية » فقط في ظروف غير إعتيادية « خارجية » مثل الأزمات السياسية حين تظهر إسرائيل عضلاتها وجبروتها الحربي بين الفيّنة والأخرى شمالاً وجنوباً أو « داخليًا » حين يشتد النقاش حول مسألة سياسية في إحدى الحصص التدريسية. ويلتقي الطرفان في حال قام « الآخر » بابراز اهتمامه بنوع من أنواع الطعام التقليدي الفلسطيني أو اسم قريته أو الديانة التي يتبعها وما إلى ذلك من أسئلة « إكزوتيكية » فيما يحاول الطالب الفلسطيني في أغلب الأحيان الرد بتفان وإمعان على تساؤلات « الآخر » والانسجام معه في أحاديثه واستعمال المصطلحات الملائمة في لغة « الآخر ». ناهيك عن مسألة الوقوف أو عدم الوقوف عند إنشاد « النشيد الوطني الإسرائيلي » في حفلات التخرج الجامعية وما إلى ذلك من تماهي مع رموز « الآخر ». أما فيما يتعلق بمواد التدريس فالتطبيع مع المواد كمعطى لا يمكن تغييره فهو أمر إعتيادي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تُعتبر « وثيقة إستقلال إسرائيل » واحدة من المراجع التي يتعامل معها طالب الحقوق منذ بدء تعليمه، وذلك لا يعني معرفة وجود هذه الوثيقة وأهميتها الحقوقية فحسب بل يعني قراءتها بتمعن وتذويتها ككل مادة تعليمية أخرى سيتم إمتحان الطالب فيها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فانون ذاته ليس بالكاتب المفضّل في الجامعات الإسرائيلية ولا يتم إدراج كتابته في إطار العلوم السياسية أو علم الإجتماع أو علم النفس كمرجع أساسي مركزي.
لكن في حين يبقى « الآخر » آخرَ بالنسبة لكل طرف فإنَّ حالة التطبيع الذهني تلغي حقيقة أن جوهر الإختلاف هو إستعماري. الطرفان هما فريقان يطل أحدهما على الآخر من علو فيما ينظر الآخر الى الأعلى محاولاً القفز قدر استطاعته للوصول الى الفريق « العالي ». إن ما يغذّي حالة التطبيع هو الواقع المعيشي اليومي الذي يفرض ذاته على الفلسطيني كشرط لتحصيل قوته ومكانته الإقتصادية والإجتماعية وحتى السياسية. ما يعني أن تذويت واقع الإستعمار يصبح هو الشرط وهو القاعدة التي تنطلق منها أفكارنا وأحلامنا وأحاسيسنا اليومية فيما يبقى عدم تذويته، الإستثناء الذي يحضر في حالات خاصة فقط.
هل يمكن (إعادة؟) بناء شخص الفرد الفلسطيني الحر بعيداً عن مشروع التطبيع النفسي الإستعماري؟ « هناك معسكران : الأبيض والأسود » – المستعمِر والمستعمَر؛ كتب لنا فانون. « هناك حقيقة : الإنسان الأبيض يعتبر ذاته متفوقاً على الإنسان الأسود. وهناك حقيقة أخرى : الإنسان الأسود يريد أن يُثبت للإنسان الأبيض، بكل ثمن، غنى أفكاره وقيمّها الفكرية المتساوية ». إلا أن فانون لم يكتب ليصف، بل كتب ليغيّر؛ فقط عبر تفكيك وتحليل الأثر النفسي والذهني للإستعمار ومواجهة أنفسنا بواقع وجودنا في مصيدته الذهنية سنتمكن من معالجة تفاقم الأزمات السياسية والثقافية والإجتماعية التي نواجهها في ظل هذا الإستعمار. التغاضي عن حالة التطبيع المفروضة عليّنا، من شأنه أن يحوّل الأزمة الى مزّمنة سيكون من الصعب التعاطي معها لاحقاً.
أين نحن من حقيقة كوننا مستَعمَرين إذن؟ ذاك هو السؤال الذي تستحضره ذكرى غياب فرانتس فانون الخمسين.