26/12/2012
http://arabi.assafir.com/article.asp?aid=547&refsite=arabi&reftype=home&refzone=slider
« آه يا جسدي، اجعل منّي انساناً يسائل دائماً ! ». كانت تلك إحدى آخر العبارات لرجلٍ يسائل دائماً… رجل يسائلنا دائماً ! بعد أكثر من 50 عاماً على وفاته، في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1961، قبل بضعة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار في حرب الجزائر (19 آذار/مارس 1962)، الذي مهّد لاستقلال البلاد، لا يزال فرانز فانون يسائل الجزائريين والأفارقة، ويزوّدهم بالأدوات والمفاتيح المناسبة لتفكيك رموز الحاضر.
وقد نظّمت السلطات الجزائرية، لمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل فانون، احتفالات وندوات اقتصرت على طابع ماضوي، وكأنّ الهدف من ذلك هو تفادي النظر إلى الحاضر بعيون فانون. كل ذلك لأنّ ذلك الماضي، الذي كان فانون موجوداً فيه جسدياً كمحارب من أجل استقلال الجزائر وأفريقيا، وكمجاهد، يقاتل من أجل الحرية والعدالة، هو ماضٍ مجيد. إنّ النصوص التي تركها لنا ذلك الرجل الذي رحل وهو لا يزال يافعاً، عشية استقلال الجزائر، هي كناية عن تفكيك ساخط ومتبصّر لنظام عالم ظالم وبربري، ودفاعٍ عن الروح الثورية. ولكن، بإمكاننا العثور على خلاصات ورؤى تحليلية منتشرة في جميع كتاباته حول تطور مراحل ما بعد الاستقلال، المهورة بالتنكر وبإعادة إنتاج النظام القديم مع خدم جدُد في البلدان الخاضعة سابقاً للاستعمار. إنها جوانب في فكر فانون تثير الاضطراب، وهي تمثل حدساً تحليلياً ينير حاضراً هو أحياناً كارثي، حيث تمّ اختصار إنجازات الاستقلال بالمظاهر، ولا يزال تحرير الانسان مهمة تنتظر التحقيق.
يميل خدم النظام القائم، في الجزائر وخارجها، إلى سجن فانون، ذاك الذي لا يتوقف عن طرح الأسئلة، في إطار إحياء ذكرى « تاريخية » بهدف محو الطاقة النقدية والتحريضية التي يختزنها. يميل هؤلاء إلى « تحنيط » فكر مُزعج للنظام القائم. بالنسبة للأشخاص الذين لم يفارقوا أبداً فكر فانون، ولا يزالون يستعيدون نصوصه بشكل دوري، فإنّ راهنيته ليست بالأمر المفاجئ. فبعد مرور 50 عاماً على وفاة فانون، لا تزال الدول الأفريقية المستقلة والعالم العربي والجزائر وأفريقيا، بعيدين عن أن يكونوا جنَّات. وخلف أعلام الاستقلال، لا تزال القضايا التي تخترق بحيوية ساخطة نصوص فانون، راهنة جدّاً اليوم : النهب والاستلاب والظلم وسحق النساء والرجال على أيدي المتنفّذين، جميعها مسائل لا تزال حاضرة بقوة. ليس فكر فانون شهادة عن الماضي فحسب، بل هو يفيدنا عن الحاضر أيضاً. إنه يفيدنا عن عالم تطوّرت بُناه من دون أن تتغير بشكل جذري، خصوصاً في البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار. نفهم بسهولة لماذا يحاول الممسكون بزمام النظام القائم في « المستعمرات السابقة »، تحييد فرانز فانون من خلال حصره في « التاريخ ». هذا الرجل لا يزال يطرح الأسئلة، وجيل الشباب الذين يتبنّون الميراث الحي لهذا الثائر الذي لم يساوم يوماً، ينكبّون بالضرورة، ومن دون رحمة، على النقر في القشرة الرقيقة التي تغلف الدول المستقلة المزهوة بأعلامها الخاصة، وذلك بهدف الكشف على استمرارية نظام الهيمنة والاستغلال والظلم. لقد تحوّلت استقلالات الدول الأفريقية إلى مجرّد أوهام بعدما تم تحوير النضالات من أجل التحرير إلى إعادة إنتاج « مكيَّفة » للنظام القديم.
ولهذه الأسباب، يستحيل سجن فانون، الذي غادرنا بشكل باكر جداً عن عمر لم يتجاوز ال36 عاماً، بعدما ترك لنا كتابات لا تشيخ… يستحيل سجنه في متحف الأفكار. وقد شاهد فانون في تونس، حيث كان ينشط في صحيفة الثورة الجزائرية، « المجاهد »، في الخطوات الأولى لجمهورية بورقيبة، المآل الذي ستنتهي إليه الدول المستقلة وإعادة إنتاج الحقبة النيو – كولونيالية فيها.
« إنّ البورجوازية الوطنية التي تتسلّم السلطة في نهاية النظام الكولونيالي، هي بورجوازية متخلّفة. وقدرتها الاقتصادية تكاد تكون معدومة، وهي بجميع الأحوال لا تقارن بقدرات البورجوازية في بلدانها الأم، والتي تفترض أنها يمكنها الحلول مكانها. لقد اقتنعت البورجوازية الوطنية سريعاً، بسبب نرجسيتها الإرادوية، بأنها قادرة بسهولة على الحلول مكان البورجوازية في البلدان الأم. لكن الاستقلال الذي يضعها حرفياً أمام مواجهة الصعوبات، سيثير داخلها ردود فعل كارثية، وسيرغمها على إطلاق نداءات قلقة باتجاه بلد المستعمِر القديم. (…) هذه البورجوازية موجَّهة بكاملها نحو نشاطات وسيطة. ويبدو أن مصيرها لا يتجاوز التواجد في حركة النظام (العالمي) وفي التركيبات. البورجوازية الوطنية تتصرف وفق نفسية رجل الأعمال وليس كقباطنة الصناعة… ».
بقراءة هذا الجزء من فصل « سوء طالع الوعي الوطني » من كتاب « المعذبون في الأرض » المنشور عام 1961، وهو العام نفسه الذي شهد وفاته، وبينما كانت حقبة الاستقلال لا تزال « طازجة »، يأخذنا عمق التوقعات التحليلية. وبعد مرور نصف قرن على استقلال الدول المستعمَرة، تبدو الحصيلة كارثية : يعاد النظر بالاستقلالات. والغربيون، ومعهم ذراعهم العسكرية، أي حلف شمال الأطلسي، يتدخلون بانفسهم من أجل السيطرة المباشرة على الموارد (العراق وليبيا)، والشعوب لم تتحرر من القمع الذي كان يستلبها ولا من البؤس والظلم ومن تركِها لمصيرها. لا تزال المجتمعات محرومة من دولة يليق بها هذا المصطلح. ومثلما توقّع فانون، أخذت النخب تتحوّل غالباً إلى دور مساعد وخادم للاستعمار الجديد.
لكن إعادة قراءة فانون لا تقتصر على كونها وسيلة لاستنتاج الخلاصات النقدية، فهي، في زمن الانحسار النضالي، دعوة للفعل ولإعادة تزويد الاستقلال عن الاستعمار مضموناً سياسياً يتعلق بالمواطنة والعدالة الاجتماعية والحريات. ويقول فانون « إن تحرير الانسان لا يتبع التحرير الوطني. ويستحيل إنجاز تحرير وطني أصيل إلا بمقدار بدء الفرد رحلة تحرير نفسه بطريقة لا عودة فيها إلى الخلف ». يتعلق الأمر بالخروج من كاريكاتور الاستقلال الشكلي، وإعطائه مضموناً سياسياً وإنسانياً. وبينما انتهى الأمر بالنخب الرديفة إلى التشكيك بالاستقلال الرسمي، فإنّ رسائل فانون هي نداءات للدفاع عن الحريات العامة والخاصة، وعن أولوية المصلحة العامة، والتخفيف من التفاوتات الاجتماعية، ولمساءلة المنتخَبين وسيادة القانون. كل ذلك لأنّه بالنسبة لفانون، ليس هناك حتمية للفشل. والمأساة والعذابات ليست نمطاً اجبارياً لحياة شعوبنا، بل هي قادرة على اختراع سعادتها، خلق تلك السعادة. وهذه رسالة أخرى من رسائل فانون.
بعد كل ذلك، كيف يمكننا ألا نشعر بالحضور القوي لمثل هذا الرجل المحب للغاية، والممتلئ أملاً ! « يجب ألا تتحكم الآلة يوماً بالانسان. ويجب أن يزول استعباد الانسان للانسان إلى الأبد، أي استعبادي أنا من قبل شخص آخر. فليُسمَح لي باكتشاف الانسان أينما وُجد، وبالشوق إليه ».
لقد رحل فانون باكراً جداً. استقلالنا المحوَّر يفتقده. وخلال صراعه الأخير مع المرض، أطلق عبارة أخيرة جمالها مؤثِّر : « آه يا جسدي، اجعل مني شخصاً يسائل دائماً ! »، وها هو لا يزال يسائلنا دوماً. فانون شقيقنا… إنه ينيرنا في هذه الأوقات المرتبكة.
* كاتب من الجزائر
« O mon corps, fais de moi toujours un homme qui interroge ! « ! C’est une des dernières phrases d’un homme qui toujours interroge. Qui toujours nous interroge ! Plus de cinquante ans après sa mort, le 6 décembre 1961, à quelques mois du cessez-le-feu de la guerre d’Algérie, le 19 mars 1962, prélude à l’indépendance, Franz Fanon continue à interroger des Algériens et des Africains et à leur donner des instruments et des clefs pour décoder le présent.
L’Algérie officielle a organisé, à l’occasion du cinquantenaire, des cérémonies et des colloques, qui semblent avoir été u confinés dans une sorte de fixation passéiste. Comme pour éviter de regarder le présent, avec les yeux de Fanon. C’est que ce passé où Fanon était présent, physiquement, en combattant de l’indépendance de l’Algérie et de l’Afrique, en moudjahid, un combattant de la liberté et de la justice, est glorieux. Les textes que cet homme, disparu si jeune, à la veille de l’indépendance de l’Algérie, étaient une déconstruction indignée et lucide d’un ordre du monde injuste, barbare et une défense de l’élan révolutionnaire. Mais, parsemés dans ses textes, on peut retrouver, déjà, des constats et des intuitions analytiques, sur des évolutions postindépendances marquées par le reniement et une reproduction de l’ordre ancien avec de nouveaux servant dans les anciens pays colonisés. Ce sont des aspects perturbants de la pensée Fanon, des intuitions analytiques qui éclairent un présent, parfois sinistre, où les indépendances sont réduites à des apparences et où la libération de l’homme reste toujours à faire. Ce Fanon qui interroge, les servants de l’ordre établi, en Algérie comme ailleurs, tentent de l’enfermer dans une commémoration « historique » destinée à en gommer la charge particulièrement subversive et critique. On tente de « momifier » une pensée qui perturbe. Pour ceux qui n’ont jamais quitté la pensée de Fanon et qui revisitent régulièrement ses textes, son actualité n’a rien de surprenant. Cinquante après la mort de Fanon et les indépendances africaines, le monde arabe, l’Algérie, l’Afrique, ne sont pas devenus des paradis. Derrière, les drapeaux des indépendances, les thèmes qui traversent avec une vitalité pleine d’indignation les textes de Fanon sont toujours là : dépossession, aliénation, injustice, écrasement des femmes et des hommes par les puissants restent toujours de mise. La pensée de Fanon n’est pas un témoignage du passé. Elle parle encore du présent. Elle parle d’un monde dont les structures ont évolué sans changer fondamentalement. Surtout dans les pays anciennement colonisés. On comprend aisément pourquoi les tenants de l’ordre établi dans les « anciennes colonies » essaient, en le confinant dans « l’histoire » de neutraliser Franz Fanon. Cet homme interroge toujours. Et les jeunes qui s’approprient cette œuvre vivante d’un révolté qui n’a jamais transigé se mettent, nécessairement, à gratter sans pitié le vernis des indépendances et du rétablissement des drapeaux pour mettre à jour la permanence de l’ordre de la domination, de l’exploitation et de l’injustice. Les indépendances africaines sont devenues des fictions après que les combats pour la libération eurent été détournés dans une reproduction « adaptée » de l’ordre ancien. C’est pour cela que Fanon, qui nous a quittés très tôt, à l’âge de 36 ans, après avoir laissé des écrits qui ne vieillissent pas, ne peut être enfermé dans le musée des idées. C’est en Tunisie, où il activait dans le journal de la révolution Algérienne « El Moudjahid », que Franz Fanon, a observé, dans les premiers pas de la République de Bourguiba, ce que seront les indépendances et la reproduction néocoloniale. « La bourgeoisie nationale qui prend le pouvoir à la fin du régime colonial est une bourgeoisie sous-développée. Sa puissance économique presque nulle, et en tout cas, sans commune mesure avec la bourgeoisie métropolitaine à laquelle elle entend se substituer. Dans son narcissisme volontariste, la bourgeoisie nationale s’est facilement convaincu qu’elle peut facilement remplacer la bourgeoisie métropolitaine. Mais l’indépendance qui la met littéralement au pied du mur va déclencher chez elle des réactions catastrophiques et l’obliger à lancer des appels angoissés en direction de l’ancienne métropole. … Elle est toute entière canalisée vers des activités intermédiaires. Etre dans le circuit, dans la combine, telle semble être sa vocation profonde. La bourgeoisie nationale a la psychologie d’un homme d’affaire non de capitaines d’industrie. … ».
En lisant cet extrait du chapitre « Les Mésaventures de la conscience nationale » du livre « Les Damnés de la Terre » publié en 1961, l’année même de sa mort et alors que l’indépendance étaient encore « fraiches », on est saisi par la profondeur de la prévision analytique. Un demi-siècle après les indépendances, le bilan est sinistre : les indépendances sont remises en cause, les Occidentaux et leur bras armé, l’Otan, interviennent directement pour contrôler physiquement les ressources (Irak, Libye), les peuples n’ont pas été libérés de l’oppression qui les aliène ni de la misère, de l’injustice et de l’abandon. Les sociétés sont toujours orphelines d’Etat digne de ce nom. Et comme le devinait Fanon, les élites se sont le plus souvent transformées en supplétifs et en servant du néocolonialisme. Mais la relecture de Fanon n’est pas qu’une manière de faire des constats critiques. Elle est, à l’heure des reflux militants, un appel à l’action. A redonner un contenu politique, celui de la citoyenneté, de la justice sociale et des libertés, aux indépendances. « La libération de l’individu ne suit pas la libération nationale. Une authentique libération nationale n’existe que dans la mesure où l’individu a amorcé irréversiblement sa libération » écrivait Fanon. Il s’agit bien de sortir de la caricature de l’indépendance formelle et de lui donner un contenu politique et humain. Alors que les élites croupions ont fini jusqu’à remettre en cause les indépendances formelles, les messages de Fanon sont des appels à la défense des libertés publiques et privées, la primauté de l’intérêt général, la réduction des inégalités, la reddition de comptes par les élus et la souveraineté du Droit. Car, et c’est là un autre message, pour Fanon, il n’y a pas de fatalité de l’échec et le drame et les souffrances ne sont pas le mode de vie inéluctables de nos peuples. Ils peuvent inventer leur bonheur, le créer. Comment ne pas sentir la présence vigoureuse d’un homme si aimant et si violemment espérant ! « Que jamais l’instrument ne domine l’homme. Que cesse à jamais l’asservissement de l’homme par l’homme. C’est-à-dire de moi par un autre. Qu’il me soit permis de découvrir et de vouloir l’homme, où qu’il se trouve ». Fanon est parti très jeune. Il a manqué à nos indépendances détournées. Sa dernière phrase alors qu’il livrait son ultime combat contre la maladie, est d’une beauté poignante : « O mon corps, fais de moi toujours un homme qui interroge ! « . Et il nous interroge toujours, Fanon, notre frère… Il nous éclaire en ces temps de confusion.